في الأسواق المالية، كما في الحياة، كثيرًا ما نلجأ إلى الماضي لفهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل، ونرسم الخطوط البيانية، ونُحدّد مستويات الدعم والمقاومة، ونتمسّك بما تسّميه التحليلات الفنية "الاتجاهات التاريخية".
لكن ما يغفله الكثيرون هو أن السوق ليس معادلة رياضية خالية من العاطفة، بل هو كائن حيّ، ينبض بمشاعر المستثمرين، ويتأثر بالابتكار، وبالمفاجآت أحيانًا أكثر من المنطق
لقد اعتاد المستثمرون أن يسيروا على خطى الماضي لسنوات، ظنًّا أن ما حدث سابقًا لا بد أن يتكرر، لكن ماذا لو كان الماضي نفسه فخًا؟ ماذا لو كانت اللحظة القادمة هي التي تكسر النمط؟
لقد حدث هذا الأمر في حالات عديدة غيّرت مسار أسهم مئات الشركات، وصنعت ثروات، ودمّرت أخرى.
ومن الصعود الأسطوري لـ"تسلا" إلى الانهيار المدوي لـ"كوداك"، مرورًا بالقفزات الجنونية لأسهم شركات الذكاء الاصطناعي، والهزات المفاجئة التي عصفت بكبرى شركات التواصل الاجتماعي، كلها شواهد حيّة على أن السوق لا يسير على خط مستقيم.
وهذه الشواهد تعكس أن تحركات السوق والأسهم لا تخضع دائمًا لتوقعات النماذج التقليدية.
ففي كثير من الأحيان، تكسر الأسهم لاتجاهاتها التاريخية بسبب عوامل خارجة عن التحليل الفني أو القوائم المالية، كأن يصعد سهم بسبب رواية جذابة تغذيها وسائل الإعلام، أو ينهار آخر نتيجة فضيحة مفاجئة أو تغيّر في المزاج العام للمستثمرين.
هذه التحوّلات، وإن بدت غير منطقية في لحظتها، تحمل في طياتها إشارات ودروسًا لا يمكن تجاهلها.
فالمستثمر الذكي هو من يقرأ ما بين السطور، ويُدرك أن ما يحرك الأسواق ليس فقط الأرقام، بل القصص والمشاعر والقرارات البشرية، وحتى الأحداث التي لا يمكن التنبؤ بها.
ما وراء الاتجاهات التاريخية للأسهم
تبدأ من الأداء المالي للشركات، مرورًا بمتغيرات الاقتصاد الكلي مثل معدلات الفائدة والتضخم، وصولًا إلى العوامل الجيوسياسية والتطورات التكنولوجية.
هذه الاتجاهات ليست خطوطًا مستقيمة، بل مسارات معقدة تتخللها محطات من الازدهار والانكماش، وغالبًا ما تُرسم على مدى سنوات طويلة من البيانات والثقة المتراكمة.
لكن، ما إن يدخل عنصر جديد غير متوقع إلى المشهد، حتى يتغير المسار فجأة، مما يؤدي إلى تقلبات حادة في الأسواق وإعادة تقييم شاملة للتوقعات المستقبلية.
قد يكون هذا العنصر اكتشافًا تكنولوجيًا يعيد تشكيل الصناعة، أو فضيحة مالية تهز ثقة المستثمرين، أو حتى موجة شعبية تقودها منصات التواصل ترفع سهمًا لا تبرره أرقامه.
وعند هذه النقطة، تبدأ الأسهم بالخروج عن مألوفها، فإما أن تحلّق إلى آفاق لم تكن بالحسبان، أو تهوي إلى أعماق كانت خارج كل التوقعات.
وتُعدّ هناك خمسة أسباب رئيسية قد تدفع الأسهم إلى كسر اتجاهاتها التاريخية، حيث تمثل كلٌ منها نقطة تحوّل جوهرية تُعيد تشكيل مسارات الأسواق بشكل ملحوظ، وتتمثل في:
1- الابتكارات التكنولوجية والتحولات السوقية
يُعد الابتكار من أبرز المحفزات التي تقلب قواعد اللعبة في الأسواق المالية. فعندما تدخل تكنولوجيا جديدة أو يظهر نموذج عمل مبتكر، يمكن أن تنقلب التوقعات رأسًا على عقب وتُعاد كتابة قواعد السوق.
مثال صارخ على ذلك هو ما حدث مع شركة "إنفيديا" بين عامي 2023 و2024؛ حيث أدّى صعود تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى جعل الشركة المعالج الأساسي لـ"عصر الذكاء الاصطناعي"، ما رفع قيمتها السوقية لتتجاوز تريليون دولار.
في المقابل، نجد قصة سقوط شركة "كوداك" عام 2012، عندما تجاهلت التحول الرقمي واستمرت في الاعتماد على التصوير التقليدي، وهو ما أدى إلى تآكل أعمالها تدريجيًا حتى انتهى بها المطاف بإعلان الإفلاس، رغم أنها كانت أيقونة عالم التصوير لعقود.
2- التحولات في سلوك المستثمرين والعدوى النفسية
لكن الأسواق لا تتحرك فقط بدافع الابتكار، بل تلعب العوامل النفسية وسلوكيات المستثمرين دورًا محوريًا، خاصة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تنتشر المعلومات والشائعات كالنار في الهشيم.
من أبرز الأمثلة على هذه الظاهرة، ما حدث مع سهم "جيم ستوب" في يناير 2021، عندما ارتفع بنسبة فاقت 1700% خلال أيام معدودة نتيجة حملة ضغط على البائعين المكشوفين قادها مستثمرون أفراد على منصة ريديت.
لم يكن هذا الصعود مدفوعًا بأي أساسيات مالية قوية، بل كان وليد تكتيكات نفسية جماعية.
وفي مثال معاكس، تكبّدت "ميتا" (فيسبوك سابقًا) خسائر ضخمة في فبراير 2022، حيث هبطت قيمتها السوقية بأكثر من 230 مليار دولار في يوم واحد فقط، نتيجة تراجع عدد المستخدمين اليوميين وقلق المستثمرين من توجه الشركة نحو الميتافيرس.
3- السياسات الاقتصادية والأحداث الكبرى
إلى جانب السلوكيات الفردية، تلعب السياسات الاقتصادية والأحداث الكبرى دورًا بالغ الأثر في كسر الاتجاهات التاريخية للأسهم.
فمثلًا شكّلت جائحة كوفيد-19 لحظة محورية في هذا السياق، حيث أربكت الأسواق وأعادت توزيع الأوراق، إذ صعدت أسهم شركات التكنولوجيا بسبب اعتماد الناس على الإنترنت والعمل من المنزل، بينما هوت أسهم شركات الطيران والطاقة التقليدية.
كذلك، خلّفت الحرب الروسية-الأوكرانية في عام 2022 آثارًا اقتصادية كبيرة، أبرزها ارتفاع أسعار الطاقة والمعادن، ما أدى إلى صعود مفاجئ في أسهم شركات النفط والدفاع، على الرغم من أن التوجهات السابقة للسوق كانت تميل نحو الطاقة النظيفة.
أما السياسات النقدية، مثل قرارات رفع الفائدة الأميركية أو تدخلات البنوك المركزية، فهي قادرة على تغيير قواعد اللعبة في لحظات، وتعيد توجيه السيولة وتقييمات الأصول بشكل دراماتيكي.
4- التغيرات الهيكلية في الاقتصاد العالمي
وعلى مستوى أعمق، قد يكون انكسار الاتجاهات نتيجة تحوّلات هيكلية في الاقتصاد العالمي.
فمع التحول من الاقتصاد الصناعي إلى الرقمي، أصبحت شركات التكنولوجيا هي المهيمنة على مؤشرات كبرى مثل "ناسداك" و"إس آند بي 500"، في حين تراجعت أهمية الصناعات التقليدية.
كما أن التغيرات في طبيعة الحياة المعاصرة تلعب دورًا لا يُستهان به.
فشركات مثل "نوفو نوردسيك"، المتخصصة في أدوية السمنة والسكري، شهدت صعودًا هائلًا بفضل تنامي الطلب على أدوية مثل "أوزمبيك"، وسط تزايد معدلات السمنة في الدول المتقدمة، ما جعل الرهانات على قطاع الرعاية الصحية أكثر جاذبية من أي وقت مضى.
5- تلاعب السوق والمضاربات الكبيرة
وأخيرًا، لا يمكن الحديث عن تغيرات مسارات الأسهم دون التطرّق إلى عامل التلاعب والمضاربات الكبرى.
إذ تلجأ صناديق التحوط الكبيرة مثل "سيتي ديل" أو "رينيشانس تكنولوجيز" إلى استخدام أنظمة تداول تعتمد على الخوارزميات، مما يضخّم التحركات قصيرة الأجل للأسواق، ويؤدي إلى تغييرات مفاجئة في الأسعار تتجاوز مستويات الدعم والمقاومة.
كما أن الشائعات لا تزال لاعبًا قويًا في الأسواق، فمثلًا، في عام 2023 تسببت شائعة عن الحالة الصحية لرئيس أحد البنوك المركزية الآسيوية في هزة مؤقتة بأسواق آسيا، رغم عدم تأكيد الخبر أو وجود أثر اقتصادي مباشر له.
متى نثق بالمسار التاريخي.. ومتى نشكك فيه؟
البيانات التاريخية مهمة، لكنها ليست ضمانًا للمستقبل. المستثمر الذكي هو من يجمع بين التحليل الفني، والقراءة النفسية للسوق، وفهم الاتجاهات الاقتصادية العميقة.
فالسهم لا ينحرف عن مساره بلا سبب، لكن في زمن الابتكار السريع، وتضخيم الإعلام، وعصر التداول الخوارزمي، الأسباب قد تأتي أسرع مما نتخيل.
ففي سوق لا يرحم، حيث تتحوّل الثواني إلى أرباح أو خسائر، لا تكفي خرائط الماضي وحدها لعبور الحاضر.
السؤال الحقيقي الذي يواجه كل مستثمر ليس: "إلى أين تتجه الأسهم؟"، بل: "هل أملك البصيرة التي تُمكّنني من إدراك لحظة كسر القواعد؟"
ففي عالم يتغير بوتيرة متسارعة، قد يجد من يتمسك بالمألوف نفسه خارج اللعبة، بينما أولئك الذين يلتقطون الإشارات الخفية قبل أن تتحول إلى موجات، هم وحدهم من يصعدون إلى القمم.
المصدر: argaam